(1947) في الشعر
وبعد .. وبعد .. ففي يد القارئ حروفٌ دافئة تتحرك على بياض الورق ، وتتسلق أصابعه لتعانق قلبه . هذه الأحرف لم أكتبها لفئةٍ خاصةٍ من الناس روضوا خيالهم على تذوق الشعر ، وهيأتهم ثقافاتهم لهذا . لا .. إنني أكتب لأي ( إنسان ) مثلي يشترك معي في الإنسانية ، وتوجد بين خلايا عقله ، خلية تهتز للعاطفة الصافية ، وللواحات المزروعة وراء مدى الظن .. أريد أن يكون الفن ملكاً لكل الناس كالهواء ، وكالماء ، وكغناء العصافير ، يجب أن لا يحرم منها أحد . إذن ، يجب أن نعمم الفن ، وأن نجعله بعيد الشمول . ومتى كان لنا ذلك استطعنا أن نجلب الجماهير المتهالكة على الشوك ، والطين ، والمادة الفارغة ، إلى عالم أسواره النجوم ، وأرضه مفروشة بالبريق . متى جذبنا الجماهير إلى قمتنا ، نبذوا أنانيتهم ، وتخلوا عن شهوة الدم ، وخلعوا أثواب ردائهم ، وهكذا يغمر السلام الأرض ، وينبت الريحان في مكان الشوك . إنني أحلم ( بالمدينة الشاعرة ) لتكون إلى جانب مدينة الفارابي (الفاضلة). وحينئذ فقط . يكتشف الإنسان نفسه ، ويعرف الله .. وفي سبيل هذه الفلسفة ، فلسفة الغناء العفوي ، حاولت فيما كتبت أن أرد قلبي إلى طفولته ، وأتخير ألفاظاً مبسطة ، مهموسة الرنين ، وأختار من أوزان الشعر ألطفها على الأذن . فإذا أحس القارئ بأن قلبي صار مكان قلبه ، وانتفض بين أضلاعه هو ، وأنه يعرفني قبل أن يعرفني ، وأنني صرت فماً له وحنجرة ، فلقد أدركت غايتي ، وحققت حلمي الأبيض ، وهو أن اجعل الشعر يقوم في كل منزل إلى جانب الخبز والماء ...
Commentaire